فصل: (الْمَشْهَدُ الْأَوَّلُ: مَشْهَدُ الْقَدَرِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: [مَعْنَى الْخُلُقِ]:

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:
الْخُلُقُ: مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ الْمُتَكَلِّفُ مِنْ نِعْمَتِهِ.
أَيْ خُلُقُ كُلِّ مُتَكَلِّفٍ: فَهُوَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ نُعُوتُهُ. فَتَكَلُّفُهُ يَرُدُّهُ إِلَى خُلُقِهِ. كَمَا قِيلَ: إِنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ.
وَقَالَ الْآخَرُ:
يُرَادُ مِنَ الْقَلْبِ نِسْيَانُكُمْ ** وَتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ

فَمُتَكَلِّفُ مَا لَيْسَ مِنْ نَعْتِهِ وَلَا شِيمَتِهِ: يَرْجِعُ إِلَى شِيمَتِهِ، وَنَعْتِهِ، وَسَجِيَّتِهِ. فَذَاكَ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ: هُوَ الْخُلُقُ.
قَالَ وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ النَّاطِقِينَ فِي هَذَا الْعِلْمِ: أَنَّ التَّصَوُّفَ هُوَ الْخُلُقُ. وَجَمِيعُ الْكَلَامِ فِيهِ يَدُورُ عَلَى قُطْبٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الْأَذَى.
قُلْتُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهَا ثَلَاثَةً: كَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى، وَإِيجَادُ الرَّاحَةِ.
وَمِنْهُمْ: مَنْ يَجْعَلُهَا اثْنَيْنِ- كَمَا قَالَ الشَّيْخُ- بَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الْأَذَى.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرُدُّهَا إِلَى وَاحِدٍ. وَهُوَ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ. وَالْكُلُّ صَحِيحٌ.
قَالَ وَإِنَّمَا يُدْرَكُ إِمْكَانُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. فِي الْعِلْمِ، وَالْجُودِ، وَالصَّبْرِ. فَالْعِلْمُ يُرْشِدُهُ إِلَى مَوَاقِعِ بَذْلِ الْمَعْرُوفِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنْكَرِ، وَتَرْتِيبِهِ فِي وَضْعِهِ مَوَاضِعَهُ. فَلَا يَضَعُ الْغَضَبَ مَوْضِعَ الْحِلْمِ. وَلَا بِالْعَكْسِ، وَلَا الْإِمْسَاكَ مَوْضِعَ الْبَذْلِ، وَلَا بِالْعَكْسِ. بَلْ يَعْرِفُ مَوَاقِعَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَمَرَاتِبَهَا، وَمَوْضِعَ كُلِّ خُلُقٍ: أَيْنَ يَضَعُهُ، وَأَيْنَ يُحْسِنُ اسْتِعْمَالَهُ.
وَالْجُودُ يَبْعَثُهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ بِحُقُوقِ نَفْسِهِ، وَالِاسْتِقْصَاءِ مِنْهَا بِحُقُوقِ غَيْرِهِ. فَالْجُودُ هُوَ قَائِدُ جُيُوشِ الْخَيْرِ.
وَالصَّبْرُ يَحْفَظُ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةَ ذَلِكَ. وَيَحْمِلُهُ عَلَى الِاحْتِمَالِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَكَفِّ الْأَذَى، وَعَدَمِ الْمُقَابَلَةِ. وَعَلَى كُلِّ خَيْرٍ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَهُوَ أَكْبَرُ الْعَوْنِ عَلَى نَيْلِ كُلِّ مَطْلُوبٍ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}.
فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَشْيَاءَ: بِهَا يُدْرَكُ التَّصَوُّفُ، وَالتَّصَوُّفُ: زَاوِيَةٌ مِنْ زَوَايَا السُّلُوكِ الْحَقِيقِيِّ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِهَا. لِتَسْتَعِدَّ لِسَيْرِهَا إِلَى صُحْبَةِ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَمَعِيَّةِ مَنْ تُحِبُّهُ. فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ. كَمَاقَالَ سُمْنُونُ: ذَهَبَ الْمُحِبُّونَ بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [دَرَجَاتُ الْخَلْقِ]:

.[الدَّرَجَةُ الْأُولَى أَنْ تَعْرِفَ مَقَامَ الْخَلْقِ]:

قَالَ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: أَنْ تَعْرِفَ مَقَامَ الْخَلْقِ. وَأَنَّهُمْ بِأَقْدَارِهِمْ مَرْبُوطُونَ. وَفِي طَاقَتِهِمْ مَحْبُوسُونَ. وَعَلَى الْحُكْمِ مَوْقُوفُونَ. فَتَسْتَفِيدَ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَمْنَ الْخَلْقِ مِنْكَ، حَتَّى الْكَلَبِ. وَمَحَبَّةُ الْخَلْقِ إِيَّاكَ، وَنَجَاةُ الْخَلْقِ بِكَ.
فَبِهَذِهِ الدَّرَجَةِ: يَكُونُ تَحْسِينُ الْخُلُقِ مَعَ الْخَلْقِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ، وَكَيْفِيَّةِ مُصَاحَبَتِهِمْ.
وَبِالثَّانِيَةِ: تَحْسِينُ الْخُلُقِ مَعَ اللَّهِ فِي مُعَامَلَتِهِ.
وَبِالثَّالِثَةِ: دَرَجَةُ الْفَنَاءِ عَلَى قَاعِدَتِهِ وَأَصْلِهِ.
يَقُولُ: إِذَا عَرَفْتَ مَقَامَ الْخَلْقِ، وَمَقَادِيرَهُمْ، وَجَرَيَانَ الْأَحْكَامِ الْقَدَرِيَّةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ مُقَيَّدُونَ بِالْقَدَرِ، لَا خُرُوجَ لَهُمْ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ، وَمَحْبُوسُونَ فِي قُدْرَتِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ. لَا يُمْكِنُهُمْ تَجَاوُزُهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَأَنَّهُمْ مَوْقُوفُونَ عَلَى الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ لَا يَتَعَدَّوْنَهُ، اسْتَفَدْتَ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ:
أَمْنَ الْخَلْقِ مِنْكَ. وَذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهِمْ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ. لَمْ يُطَالِبْهُمْ بِمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ. وَامْتَثَلَ فِيهِمْ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَخْذِ الْعَفْوِ مِنْهُمْ. فَأَمِنُوا مِنْ تَكْلِيفِهِ إِيَّاهُمْ. وَإِلْزَامِهِ لَهُمْ مَا لَيْسَ فِي قُوَاهُمْ وَقُدَرِهِمْ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ يَأْمَنُونَ لَائِمَتَهُ. فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ عَاذِرٌ لَهُمْ فِيمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَحْكَامِ فِيمَا لَمْ يَأْمُرِ الشَّرْعُ بِإِقَامَتِهِ فِيهِمْ. لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مَحْبُوسِينَ فِي طَاقَتِهِمْ فَيَنْبَغِي مُطَالَبَتُهُمْ بِمَا يُطَالَبُ بِهِ الْمَحْبُوسُ، وَعُذْرُهُمْ بِمَا يُعْذَرُ بِهِ الْمَحْبُوسُ. وَإِذَا بَدَا مِنْهُمْ فِي حَقِّكَ تَقْصِيرٌ أَوْ إِسَاءَةٌ، أَوْ تَفْرِيطٌ. فَلَا تُقَابِلْهُمْ بِهِ وَلَا تُخَاصِمْهُمْ. بَلِ اغْفِرْ لَهُمْ ذَلِكَ وَاعْذُرْهُمْ. نَظَرًا إِلَى جَرَيَانِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ آلَةٌ. وَهَاهُنَا يَنْفَعُكَ الْفَنَاءُ بِشُهُودِ الْحَقِيقَةِ عَنْ شُهُودِ جِنَايَتِهِمْ عَلَيْكَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ لِرَجُلٍ تَعَدَّى عَلَيْهِ وَظَلَمَهُ: إِنْ كُنْتَ ظَالِمًا فَالَّذِي سَلَّطَكَ عَلَيَّ لَيْسَ بِظَالِمٍ.

.[مَشَاهِدُ الْعَبْدِ فِيمَا يُصِيبُهُ مِنْ أَذَى الْخَلْقِ]:

.[الْمَشْهَدُ الْأَوَّلُ: مَشْهَدُ الْقَدَرِ]:

وَهَاهُنَا لِلْعَبْدِ أَحَدَ عَشَرَ مَشْهَدًا فِيمَا يُصِيبُهُ مِنْ أَذَى الْخَلْقِ وَجِنَايَتِهِمْ عَلَيْهِ.
أَحَدُهَا: الْمَشْهَدُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهُوَ مَشْهَدُ الْقَدَرِ وَأَنَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. فَيَرَاهُ كَالتَّأَذِّي بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَالْمَرَضِ وَالْأَلَمِ، وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَانْقِطَاعِ الْأَمْطَارِ. فَإِنَّ الْكُلَّ أَوْجَبَتْهُ مَشِيئَةُ اللَّهِ. فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ. وَوَجَبَ وُجُودُهُ. وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَامْتَنَعَ وُجُودُهُ. وَإِذَا شَهِدَ هَذَا: اسْتَرَاحَ. وَعَلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. فَمَا لِلْجَزَعِ مِنْهُ وَجْهٌ. وَهُوَ كَالْجَزَعِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَرَضِ وَالْمَوْتِ.

.فَصْلٌ: [الْمَشْهَدُ الثَّانِي: مَشْهَدُ الصَّبْرِ]:

الْمَشْهَدُ الثَّانِي: مَشْهَدُ الصَّبْرِ فَيَشْهَدُهُ وَيَشْهَدُ وُجُوبَهُ، وَحُسْنَ عَاقِبَتِهِ، وَجَزَاءَ أَهْلِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْغِبْطَةِ وَالسُّرُورِ. وَيُخَلِّصُهُ مِنْ نَدَامَةِ الْمُقَابَلَةِ وَالِانْتِقَامِ. فَمَا انْتَقَمَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ قَطُّ إِلَّا أَعْقَبَهُ ذَلِكَ نَدَامَةٌ. وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَصْبِرِ اخْتِيَارًا عَلَى هَذَا- وَهُوَ مَحْمُودٌ- صَبَرَ اضْطَرَارًا عَلَى أَكْبَرَ مِنْهُ. وَهُوَ مَذْمُومٌ.

.فَصْلٌ: [الْمَشْهَدُ الثَّالِثُ: مَشْهَدُ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْحِلْمِ]:

الْمَشْهَدُ الثَّالِثُ: مَشْهَدُ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْحِلْمِ فَإِنَّهُ مَتَى شَهِدَ ذَلِكَ وَفَضْلَهُ وَحَلَاوَتَهُ وَعِزَّتَهُ: لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ إِلَّا لِعَشًى فِي بَصِيرَتِهِ. فَإِنَّهُ مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعُلِمَ بِالتَّجْرِبَةِ وَالْوُجُودِ. وَمَا انْتَقَمَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ إِلَّا ذَلَّ.
هَذَا، وَفِي الصَّفْحِ وَالْعَفْوِ وَالْحِلْمِ: مِنَ الْحَلَاوَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ، وَشَرَفِ النَّفْسِ، وَعِزِّهَا وَرِفْعَتِهَا عَنْ تَشَفِّيهَا بِالِانْتِقَامِ: مَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالِانْتِقَامِ.

.فَصْلٌ: [الْمَشْهَدُ الرَّابِعُ: مَشْهَدُ الرِّضَا]:

الْمَشْهَدُ الرَّابِعُ: مَشْهَدُ الرِّضَا وَهُوَ فَوْقَ مَشْهَدِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلنُّفُوسِ الْمُطْمَئِنَّةِ، سِيَّمَا إِنْ كَانَ مَا أُصِيبَتْ بِهِ سَبَبُهُ الْقِيَامُ لِلَّهِ. فَإِذَا كَانَ مَا أُصِيبَ بِهِ فِي اللَّهِ، وَفِي مَرْضَاتِهِ وَمَحَبَّتِهِ: رَضِيَتْ بِمَا نَالَهَا فِي اللَّهِ. وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مُحِبٍّ صَادِقٍ، يَرْضَى بِمَا يَنَالُهُ فِي رِضَا مَحْبُوبِهِ مِنَ الْمَكَارِهِ. وَمَتَى تَسَخَّطَ بِهِ وَتَشَكَّى مِنْهُ، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَذِبِهِ فِي مَحَبَّتِهِ. وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ، وَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ كَمَا قِيلَ:
مِنْ أَجْلِكَ جَعَلْتُ خَدِّيَ أَرْضًا ** لِلشَّامِتِ وَالْحَسُودِ حَتَّى تَرْضَى

وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِمَا يُصِيبُهُ فِي سَبِيلِ مَحْبُوبِهِ، فَلْيَنْزِلْ عَنْ دَرَجَةِ الْمَحَبَّةِ. وَلْيَتَأَخَّرْ فَلَيْسَ مِنْ ذَا الشَّأْنِ.

.فَصْلٌ: [الْمَشْهَدُ الْخَامِسُ: مَشْهَدُ الْإِحْسَانِ]:

الْمَشْهَدُ الْخَامِسُ: مَشْهَدُ الْإِحْسَانِ وَهُوَ أَرْفَعُ مِمَّا قَبْلَهُ. وَهُوَ أَنْ يُقَابِلَ إِسَاءَةَ الْمُسِيءِ إِلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ. فَيُحْسِنَ إِلَيْهِ كُلَّمَا أَسَاءَ هُوَ إِلَيْهِ. وَيُهَوِّنُ هَذَا عَلَيْهِ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ قَدْ رَبِحَ عَلَيْهِ. وَأَنَّهُ قَدْ أَهْدَى إِلَيْهِ حَسَنَاتِهِ، وَمَحَاهَا مِنْ صَحِيفَتِهِ. وَأَثْبَتَهَا فِي صَحِيفَةِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ. فَيَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَشْكُرَهُ، وَتُحْسِنَ إِلَيْهِ بِمَا لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى مَا أَحْسَنَ بِهِ إِلَيْكَ.
وَهَاهُنَا يَنْفَعُ اسْتِحْضَارُ مَسْأَلَةِ اقْتِضَاءِ الْهِبَةِ الثَّوَابِ. وَهَذَا الْمِسْكِينُ قَدْ وَهَبَكَ حَسَنَاتِهِ. فَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْكَرَمِ فَأَثِبْهُ عَلَيْهَا، لِتُثْبِتَ الْهِبَةَ. وَتَأْمَنَ رُجُوعَ الْوَاهِبِ فِيهَا.
وَفِي هَذَا حِكَايَاتٌ مَعْرُوفَةٌ عَنْ أَرْبَابِ الْمَكَارِمِ. وَأَهْلِ الْعَزَائِمِ.
وَيُهَوِّنُهُ عَلَيْكَ أَيْضًا: عِلْمُكَ بِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. فَإِنْ كَانَ هَذَا عَمَلَكَ فِي إِسَاءَةِ الْمَخْلُوقِ إِلَيْكَ عَفَوْتَ عَنْهُ. وَأَحْسَنْتَ إِلَيْهِ، مَعَ حَاجَتِكَ وَضَعْفِكَ وَفَقْرِكَ وَذَلِكَ. فَهَكَذَا يَفْعَلُ الْمُحْسِنُ الْقَادِرُ الْعَزِيزُ الْغَنِيُّ بِكَ فِي إِسَاءَتِكَ. يُقَابِلُهَا بِمَا قَابَلْتَ بِهِ إِسَاءَةَ عَبْدِهِ إِلَيْكَ. فَهَذَا لَا بُدَّ‍ مِنْهُ. وَشَاهِدُهُ فِي السُّنَّةِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا.

.فَصْلٌ: [الْمَشْهَدُ السَّادِسُ: مَشْهَدُ السَّلَامَةِ وَبَرْدِ الْقَلْبِ]:

الْمَشْهَدُ السَّادِسُ: مَشْهَدُ السَّلَامَةِ وَبَرْدِ الْقَلْبِ وَهَذَا مَشْهَدٌ شَرِيفٌ جِدًّا لِمَنْ عَرَفَهُ، وَذَاقَ حَلَاوَتَهُ. وَهُوَ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ قَلْبُهُ وَسِرُّهُ بِمَا نَالَهُ مِنَ الْأَذَى، وَطَلَبِ الْوُصُولِ إِلَى دَرْكِ ثَأْرِهِ، وَشِفَاءِ نَفْسِهِ. بَلْ يُفَرِّغُ قَلْبَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَيَرَى أَنَّ سَلَامَتَهُ وَبَرْدَهُ وَخُلُوَّهُ مِنْهُ أَنْفَعُ لَهُ. وَأَلَذُّ وَأَطْيَبُ. وَأَعْوَنُ عَلَى مَصَالِحِهِ. فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ فَاتَهُ مَا هُوَ أَهَمُّ عِنْدَهُ، وَخَيْرٌ لَهُ مِنْهُ. فَيَكُونُ بِذَلِكَ مَغْبُونًا. وَالرَّشِيدُ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ. وَيَرَى أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ السَّفِيهِ. فَأَيْنَ سَلَامَةُ الْقَلْبِ مِنِ امْتِلَائِهِ بِالْغِلِّ وَالْوَسَاوِسِ، وَإِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي إِدْرَاكِ الِانْتِقَامِ؟.

.فَصْلٌ: [الْمَشْهَدُ السَّابِعُ: مَشْهَدُ الْأَمْنِ]:

الْمَشْهَدُ السَّابِعُ: مَشْهَدُ الْأَمْنِ فَإِنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْمُقَابَلَةَ وَالِانْتِقَامَ: أَمِنَ مَاهُّو شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا انْتَقَمَ: وَاقَعَهُ الْخَوْفُ وَلَا بُدَّ. فَإِنَّ ذَلِكَ يَزْرَعُ الْعَدَاوَةَ. وَالْعَاقِلُ لَا يَأْمَنُ عَدُوَّهُ، وَلَوْ كَانَ حَقِيرًا. فَكَمْ مِنْ حَقِيرٍ أَرْدَى عَدُوَّهُ الْكَبِيرَ؟ فَإِذَا غَفَرَ، وَلَمْ يَنْتَقِمْ، وَلَمْ يُقَابِلْ: أَمِنَ مِنْ تَوَلُّدِ الْعَدَاوَةِ، أَوْ زِيَادَتِهَا. وَلَا بُدَّ أَنَّ عَفْوَهُ وَحِلْمَهُ وَصَفْحَهُ يَكْسِرُ عَنْهُ شَوْكَةَ عَدُوِّهِ. وَيَكُفُّ مِنْ جَزَعِهِ، بِعَكْسِ الِانْتِقَامِ. وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ أَيْضًا.

.فَصْلٌ: [الْمَشْهَدُ الثَّامِنُ: مَشْهَدُ الْجِهَادِ]:

الْمَشْهَدُ الثَّامِنُ: مَشْهَدُ الْجِهَادِ وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ تَوَلُّدَ أَذَى النَّاسِ لَهُ مِنْ جِهَادِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ. وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَإِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَاتِهِ.
وَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ: قَدِ اشْتَرَى اللَّهُ مِنْهُ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَعِرْضَهُ بِأَعْظَمِ الثَّمَنِ. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ الثَّمَنَ فَلْيُسَلِّمْ هُوَ السِّلْعَةَ لِيَسْتَحِقَّ ثَمَنَهَا. فَلَا حَقَّ لَهُ عَلَى مَنْ آذَاهُ. وَلَا شَيْءَ لَهُ قَبْلَهُ، إِنْ كَانَ قَدْ رَضِيَ بِعَقْدِ هَذَا التَّبَايُعِ. فَإِنَّهُ قَدْ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.
وَهَذَا ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَلِهَذَا مَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ سُكْنَى مَكَّةَ- أَعَزَّهَا اللَّهُ- وَلَمْ يَرُدَّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ دَارَهُ وَلَا مَالَهُ الَّذِي أَخَذَهُ الْكُفَّارُ. وَلَمْ يُضَمِّنْهُمْ دِيَةَ مَنْ قَتَلُوهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَلَمَّا عَزَمَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى تَضْمِينِ أَهْلِ الرِّدَّةِ مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ. قَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- بِمَشْهَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- تِلْكَ دِمَاءٌ وَأَمْوَالٌ ذَهَبَتْ فِي اللَّهِ. وَأُجُورُهَا عَلَى اللَّهِ، وَلَا دِيَةَ لِشَهِيدٍ فَأَصْفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ. وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الصِّدِّيقُ.
فَمَنْ قَامَ لِلَّهِ حَتَّى أُوذِيَ فِي اللَّهِ: حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الِانْتِقَامَ. كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.

.فَصْلٌ: [الْمَشْهَدُ التَّاسِعُ: مَشْهَدُ النِّعْمَةِ]:

الْمَشْهَدُ التَّاسِعُ: مَشْهَدُ النِّعْمَةِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَشْهَدَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي أَنْ جَعَلَهُ مَظْلُومًا يَتَرَقَّبُ النَّصْرَ. وَلَمْ يَجْعَلْهُ ظَالِمًا يَتَرَقَّبُ الْمَقْتَ وَالْأَخْذَ. فَلَوْ خُيِّرَ الْعَاقِلُ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ –وَلَا بُدَّ مِنْ إِحْدَاهُمَا- لَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا.
وَمِنْهَا: أَنْ يَشْهَدَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي التَّكْفِيرِ بِذَلِكَ مِنْ خَطَايَاهُ. فَإِنَّهُ مَا أَصَابَ الْمُؤْمِنَ هَمٌّ وَلَا غَمٌّ وَلَا أَذًى إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ خَطَايَاهُ. فَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ دَوَاءٌ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْهُ دَاءُ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ. وَمَنْ رَضِيَ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ بِأَدْوَائِهِ كُلِّهَا وَأَسْقَامِهِ، وَلَمْ يُدَاوِهِ فِي الدُّنْيَا بِدَوَاءٍ يُوجِبُ لَهُ الشِّفَاءَ: فَهُوَ مَغْبُونٌ سَفِيهٌ. فَأَذَى الْخَلْقِ لَكَ كَالدَّوَاءِ الْكَرِيهِ مِنَ الطَّبِيبِ الْمُشْفِقِ عَلَيْكَ. فَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَرَارَةِ الدَّوَاءِ وَكَرَاهَتِهِ وَمَنْ كَانَ عَلَى يَدَيْهِ. وَانْظُرْ إِلَى شَفَقَةِ الطَّبِيبِ الَّذِي رَكَّبَهُ لَكَ، وَبَعَثَهُ إِلَيْكَ عَلَى يَدَيْ مَنْ نَفْعَكَ بِمَضَرَّتِهِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَشْهَدَ كَوْنَ تِلْكَ الْبَلِيَّةِ أَهْوَنَ وَأَسْهَلَ مِنْ غَيْرِهَا. فَإِنَّهُ مَا مِنْ مِحْنَةٍ إِلَّا وَفَوْقَهَا مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا وَأَمَرُّ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَوْقَهَا مِحْنَةٌ فِي الْبَدَنِ وَالْمَالِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى سَلَامَةِ دِينِهِ وَإِسْلَامِهِ وَتَوْحِيدِهِ. وَأَنَّ كُلَّ مُصِيبَةٍ دُونَ مُصِيبَةِ الدِّينِ فَهَيِّنَةٌ. وَأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ نِعْمَةٌ. وَالْمُصِيبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ مُصِيبَةُ الدِّينِ.
وَمِنْهَا: تَوَفِيَةُ أَجْرِهَا وَثَوَابِهَا يَوْمَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: أَنَّهُ يَتَمَنَّى أُنَاسٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ، لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ الْبَلَاءِ.
هَذَا. وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَشْتَدُّ فَرَحُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا لَهُ قِبَلَ النَّاسِ مِنَ الْحُقُوقِ فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالْعِرْضِ. فَالْعَاقِلُ يَعُدُّ هَذَا ذُخْرًا لِيَوْمِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ. وَلَا يُبْطِلُهُ بِالِانْتِقَامِ الَّذِي لَا يُجْدِي عَلَيْهِ شَيْئًا.

.فَصْلٌ: [الْمَشْهَدُ الْعَاشِرُ: مَشْهَدُ الْأُسْوَةِ]:

الْمَشْهَدُ الْعَاشِرُ: مَشْهَدُ الْأُسْوَةِ وَهُوَ مَشْهَدٌ شَرِيفٌ لَطِيفٌ جِدًّا. فَإِنَّ الْعَاقِلَ اللَّبِيبَ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَهُ أُسْوَةٌ بِرُسُلِ اللَّهِ، وَأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَخَاصَّتِهِ مِنْ خَلْقِهِ. فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ الْخَلْقِ امْتِحَانًا بِالنَّاسِ، وَأَذَى النَّاسِ إِلَيْهِمْ أَسْرَعُ مِنَ السَّيْلِ فِي الْحُدُورِ. وَيَكْفِي تَدَبُّرُ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مَعَ أُمَمِهِمْ وَشَأْنِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَذَى أَعْدَائِهِ لَهُ بِمَا لَمْ يُؤْذَهُ مَنْ قَبْلَهُ. وَقَدْ قَالَ لَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ لَتُكَذَّبَنَّ وَلَتُخْرَجَنَّ وَلَتُؤْذَيَنَّ. وَقَالَ لَهُ: مَا جَاءَ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ. وَهَذَا مُسْتَمِرٌّ فِي وَرَثَتِهِ كَمَا كَانَ فِي مُوَرِّثِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَفَلَا يَرْضَى الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أُسْوَةٌ بِخِيَارِ خَلْقِ اللَّهِ، وَخَوَاصِّ عِبَادِهِ: الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ؟.
وَمَنْ أَحَبَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ فَلْيَقِفْ عَلَى مِحَنِ الْعُلَمَاءِ، وَأَذَى الْجُهَّالِ لَهُمْ. وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كِتَابًا سَمَّاهُ مِحَنَ الْعُلَمَاءِ.

.فَصْلٌ: [الْمَشْهَدُ الْحَادِيَ عَشَرَ: ‌‌‌مَشْهَدُ التَّوْحِيدِ]:

الْمَشْهَدُ الْحَادِيَ عَشَرَ: مَشْهَدُ التَّوْحِيدِ وَهُوَ أَجَلُّ الْمَشَاهِدِ وَأَرْفَعُهَا. فَإِذَا امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَمُعَامَلَتِهِ، وَإِيثَارِ مَرْضَاتِهِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَقُرَّةِ الْعَيْنِ بِهِ، وَالْأُنْسِ بِهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ. وَسَكَنَ إِلَيْهِ. وَاشْتَاقَ إِلَى لِقَائِهِ، وَاتَّخَذَهُ وَلِيًّا دُونَ مَنْ سِوَاهُ، بِحَيْثُ فَوَّضَ إِلَيْهِ أُمُورَهُ كُلَّهَا. وَرَضِيَ بِهِ وَبِأَقْضِيَتِهِ. وَفَنِيَ بِحُبِّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَذِكْرِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ: فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مُتَّسَعٌ لِشُهُودِ أَذَى النَّاسِ لَهُ أَلْبَتَّةَ. فَضْلًا عَنْ أَنْ يَشْتَغِلَ قَلْبُهُ وَفِكْرُهُ وَسِرُّهُ بِتَطَلُّبِ الِانْتِقَامِ وَالْمُقَابَلَةِ. فَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قَلْبٍ لَيْسَ فِيهِ مَا يُغْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ وَيُعَوِّضُهُ مِنْهُ. فَهُوَ قَلْبٌ جَائِعٌ غَيْرُ شَبْعَانَ. فَإِذَا رَأَى أَيَّ طَعَامٍ رَآهُ هَفَّتْ إِلَيْهِ نَوَازِعُهُ. وَانْبَعَثَتْ إِلَيْهِ دَوَاعِيهِ. وَأَمَّا مَنِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِأَعْلَى الْأَغْذِيَةِ وَأَشْرَفِهَا: فَإِنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا دُونَهَا. وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.

.فَصْلٌ: [مَعْرِفَةُ أَقْدَارِ النَّاسِ]:

وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ يَسْتَفِيدَ بِمَعْرِفَةِ أَقْدَارِ النَّاسِ، وَجَرَيَانِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ: مَحَبَّتَهُمْ لَهُ، وَنَجَاتَهُمْ بِهِ.
فَلِأَنَّهُ إِذَا عَامَلَهُمْ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ: مِنْ إِقَامَةِ أَعْذَارِهِمْ، وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَتَرْكِ مُقَابَلَتِهِمُ: اسْتَوَتْ كَرَاهَتُهُمْ وَمَحَبَّتُهُمْ لَهُ. وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِنَجَاتِهِمُ الْأُخْرَوِيَّةِ أَيْضًا. إِذْ يُرْشِدُهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْقَبُولِ مِنْهُ. وَتَلَقِّي مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ أَحْسَنَ التَّلَقِّي. هَذِهِ طِبَاعُ النَّاسِ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ تَحْسِينُ خُلُقِكَ مَعَ الْحَقِّ]:

قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: تَحْسِينُ خُلُقِكَ مَعَ الْحَقِّ. وَتَحْسِينُهُ مِنْكَ: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا يَأْتِي مِنْكَ يُوجِبُ عُذْرًا، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَأْتِي مِنَ الْحَقِّ يُوجِبُ شُكْرًا، وَأَنْ لَا تَرَى لَهُ مِنَ الْوَفَاءِ بُدًّا.
هَذِهِ الدَّرَجَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ.
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّكَ نَاقِصٌ. وَكُلُّ مَا يَأْتِي مِنَ النَّاقِصِ نَاقِصٌ. فَهُوَ يُوجِبُ اعْتِذَارَهُ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ. فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَتَعَذَّرَ إِلَى رَبِّهِ مِنْ كُلِّ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. أَمَّا الشَّرُّ: فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْخَيْرُ: فَيَعْتَذِرُ مِنْ نُقْصَانِهِ. وَلَا يَرَاهُ صَالِحًا لِرَبِّهِ.
فَهُوَ- مَعَ إِحْسَانِهِ- مُعْتَذِرٌ فِي إِحْسَانِهِ. وَلِذَلِكَ مَدَحَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ بِالْوَجَلِ مِنْهُ مَعَ إِحْسَانِهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ الرَّجُلُ يَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُ. وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ فَإِذَا خَافَ فَهُوَ بِالِاعْتِذَارِ أَوْلَى».
وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا الِاعْتِذَارِ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: شُهُودُ تَقْصِيرِهِ وَنُقْصَانِهِ.
وَالثَّانِي: صِدْقُ مَحَبَّتِهِ. فَإِنَّ الْمُحِبَّ الصَّادِقَ يَتَقَرَّبُ إِلَى مَحْبُوبِهِ بِغَايَةِ إِمْكَانِهِ. وَهُوَ مُعْتَذِرٌ إِلَيْهِ، مُسْتَحْيٍ مِنْهُ: أَنْ يُوَاجِهَهُ بِمَا وَاجَهَهُ بِهِ. وَهُوَ يَرَى أَنَّ قَدْرَهُ فَوْقَهُ وَأَجَلُّ مِنْهُ. وَهَذَا مُشَاهَدٌ فِي مَحَبَّةِ الْمَخْلُوقِينَ.
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتِعْظَامُ كُلِّ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ إِلَيْكَ، وَالِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ يُوجِبُ الشُّكْرَ عَلَيْكَ، وَأَنَّكَ عَاجِزٌ عَنْ شُكْرِهِ. وَلَا يَتَبَيَّنُ هَذَا إِلَّا فِي الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ. فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَسْتَكْثِرُ مِنْ مَحْبُوبِهِ كُلَّ مَا يَنَالُهُ. فَإِذَا ذَكَرَهُ بِشَيْءٍ وَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ: كَانَ سُرُورُهُ بِذِكْرِهِ لَهُ، وَتَأْهِيلِهِ لِعَطَائِهِ: أَعْظَمَ عِنْدَهُ مِنْ سُرُورِهِ بِذَلِكَ الْعَطَاءِ بَلْ يَغِيبُ بِسُرُورِهِ بِذِكْرِهِ لَهُ عَنْ سُرُورِهِ بِالْعَطِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ الْمُحِبُّ يَسُرُّهُ ذِكْرُ مَحْبُوبِهِ لَهُ، وَإِنْ نَالَهُ بِمَسَاءَةٍ. كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
لَئِنْ سَاءَنِي أَنْ نِلْتَنِي بِمُسَاءَةٍ ** لَقَدْ سَرَّنِي أَنِّي خَطَرْتُ بِبَالِكَا

فَكَيْفَ إِذَا نَالَهُ مَحْبُوبُهُ بِمَسَرَّةٍ- وَإِنْ دَقَّتْ- فَإِنَّهُ لَا يَرَاهَا إِلَّا جَلِيلَةً خَطِيرَةً. فَكَيْفَ هَذَا مَعَ الرَّبِّ تَعَالَى الَّذِي لَا يَأْتِي أَبَدًا إِلَّا بِالْخَيْرِ؟ وَيَسْتَحِيلُ خِلَافُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ. كَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ خِلَافُ كَمَالِهِ. وَقَدْ أَفْصَحَ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِرَبِّهِ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَيْ لَا يُضَافُ إِلَيْكَ. وَلَا يُنْسَبُ إِلَيْكَ. وَلَا يَصْدُرُ مِنْكَ. فَإِنَّ أَسْمَاءَهُ كُلَّهَا حُسْنَى، وَصِفَاتِهِ كُلَّهَا كَمَالٌ، وَأَفْعَالَهُ كُلَّهَا فَضْلٌ وَعَدْلٌ، وَحِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ. فَبِأَيِّ وَجْهٍ يُنْسَبُ الشَّرُّ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ فَكُلُّ مَا يَأْتِي مِنْهُ فَلَهُ عَلَيْهِ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ. وَلَهُ فِيهِ النِّعْمَةُ وَالْفَضْلُ.
قَوْلُهُ: وَأَنْ لَا يَرَى مِنَ الْوَفَاءِ بُدًّا.
يَعْنِي: أَنَّ مُعَامَلَتَكَ لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ بِمُقْتَضَى الِاعْتِذَارِ مِنْ كُلِّ مَا مِنْكَ، وَالشُّكْرِ عَلَى مَا مِنْهُ- عَقْدٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لَازِمٌ لَكَ أَبَدًا، لَا تَرَى مِنَ الْوَفَاءِ بِهِ بُدًّا. فَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَمْرٍ عَارِضٍ، وَحَالٍ يُحَوَّلُ. بَلْ عَقْدٌ لَازِمٌ عَلَيْكَ الْوَفَاءُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ التَّخَلُّقُ بِتَصْفِيَةِ الْخُلُقِ]:

قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: التَّخَلُّقُ بِتَصْفِيَةِ الْخُلُقِ. ثُمَّ الصُّعُودُ عَنْ تَفْرِقَةِ التَّخَلُّقِ. ثُمَّ التَّخَلُّقُ بِمُجَاوَزَةِ الْأَخْلَاقِ.
هَذِهِ الدَّرَجَةُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ.
أَحَدُهَا: تَصْفِيَةُ الْخُلُقِ بِتَكْمِيلِ مَا ذُكِرَ فِي الدَّرَجَتَيْنِ قَبْلَهُ. فَيُصَفِّيهِ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ وَقَذًى وَمُشَوِّشٍ. فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ صَعِدْتَ مِنْ تَفْرِقَتِهِ إِلَى جَمْعِيَّتِكَ عَلَى اللَّهِ. فَإِنَّ التَّخَلُّقَ وَالتَّصَوُّفَ تَهْذِيبٌ وَاسْتِعْدَادٌ لِلْجَمْعِيَّةِ. وَإِنَّمَا سَمَّاهُ تَفْرِقَةً: لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِالْغَيْرِ. وَالسُّلُوكُ يَقْتَضِي الْإِقْبَالَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالِاشْتِغَالَ بِالرَّبِّ وَحْدَهُ عَمَّا سِوَاهُ.
ثُمَّ يَصْعَدُ إِلَى مَا فَوْقَ ذَلِكَ. وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْأَخْلَاقِ كُلِّهَا بِأَنْ يَغِيبَ عَنِ الْخَلْقِ وَالتَّخَلُّقِ. وَهَذِهِ الْغَيْبَةُ لَهَا مَرْتَبَتَانِ عِنْدَهُمْ.
إِحْدَاهُمَا: الِاشْتِغَالُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ.
وَالثَّانِيَةُ: الْفَنَاءُ فِي الْفَرْدَانِيَّةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا حَضْرَةَ الْجَمْعِ وَهِيَ أَعْلَى الْغَايَاتِ عِنْدَهُمْ. وَهِيَ مَوْهِبِيَّةٌ لَا كَسَبِيَّةٌ. لَكِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَعَرَّضَ وَصَدَقَ فِي الطَّلَبِ: رُجِيَ لَهُ الظَّفَرُ بِمَطْلُوبِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [مَدَارُ حُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ الْحَقِّ]:

وَمَدَارُ حُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ الْحَقِّ، وَمَعَ الْخَلْقِ: عَلَى حَرْفَيْنِ. ذَكَرَهُمَا عَبْدُ الْقَادِرِ الْكِيلَانِيُّ فَقَالَ: كُنْ مَعَ الْحَقِّ بِلَا خَلْقٍ. وَمَعَ الْخَلْقِ بِلَا نَفْسٍ.
فَتَأَمَّلْ. مَا أَجَلَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، مَعَ اخْتِصَارِهِمَا، وَمَا أَجْمَعَهُمَا لِقَوَاعِدِ السُّلُوكِ وَلِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ؟ وَفَسَادُ الْخُلُقِ إِنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ تَوَسُّطِ الْخَلْقِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَوَسُّطِ النَّفْسِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ خَلْقِهِ. فَمَتَى عَزَلْتَ الْخَلْقَ- حَالَ كَوْنِكَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى- وَعَزَلْتَ النَّفْسَ- حَالَ كَوْنِكَ مَعَ الْخَلْقِ- فَقَدْ فُزْتَ بِكُلِّ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقَوْمُ. وَشَمَّرُوا إِلَيْهِ. وَحَامُوا حَوْلَهُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

.فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ التَّوَاضِعِ:

.[التَّوَاضُعُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ]:

وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ التَّوَاضُعِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} أَيْ سَكِينَةً وَوَقَارًا مُتَوَاضِعِينَ، غَيْرَ أَشِرِينَ، وَلَا مَرِحِينَ وَلَا مُتَكَبِّرِينَ.
قَالَ الْحَسَنُ: عُلَمَاءُ حُلَمَاءُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: أَصْحَابُ وَقَارٍ وَعِفَّةٍ لَا يَسْفَهُونَ. وَإِنْ سُفِهَ عَلَيْهِمْ حَلُمُوا.
وَالْهَوْنُ بِالْفَتْحِ فِي اللُّغَةِ: الرِّفْقُ وَاللِّينُ. وَالْهُونُ بِالضَّمِّ: الْهَوَانُ. فَالْمَفْتُوحُ مِنْهُ: صِفَةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَالْمَضْمُومُ: صِفَةُ أَهْلِ الْكُفْرَانِ. وَجَزَاؤُهُمْ مِنَ اللَّهِ النِّيرَانُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
لَمَّا كَانَ الذُّلُّ مِنْهُمْ ذُلَّ رَحْمَةٍ وَعَطْفٍ وَشَفَقَةٍ وَإِخْبَاتٍ عَدَّاهُ بِأَدَاةِ عَلَى تَضْمِينًا لِمَعَانِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ. فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذُلَّ الْهَوَانِ الَّذِي صَاحِبُهُ ذَلِيلٌ. وَإِنَّمَا هُوَ ذُلُّ اللِّينِ وَالِانْقِيَادِ الَّذِي صَاحِبُهُ ذَلُولٌ، فَالْمُؤْمِنُ ذَلُولٌ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُؤْمِنِ كَالْجَمَلِ الذَّلُولِ. وَالْمُنَافِقُ وَالْفَاسِقُ ذَلِيلٌ وَأَرْبَعَةٌ يَعْشَقُهُمُ الذُّلُّ أَشَدَّ الْعِشْقِ: الْكَذَّابُ. وَالنَّمَّامُ. وَالْبَخِيلُ. وَالْجَبَّارُ.
وَقَوْلُهُ: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} هُوَ مِنْ عِزَّةِ الْقُوَّةِ وَالْمَنَعَةِ وَالْغَلَبَةِ.
قَالَ عَطَاءٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْوَالِدِ لِوَلَدِهِ. وَعَلَى الْكَافِرِينَ كَالسَّبُعِ عَلَى فَرِيسَتِهِ. كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} وَهَذَا عَكْسُ حَالِ مَنْ قِيلَ فِيهِمْ:
كِبْرًا عَلَيْنَا، وَجُبْنًا عَنْ عَدُوِّكُمُ ** لَبِئْسَتِ الْخِلَّتَانِ: الْكِبْرُ، وَالْجُبْنُ

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ: أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ».
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ».
وَفِي حَدِيثِ احْتِجَاجِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَنَّ النَّارَ قَالَتْ: «مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا الْجَبَّارُونَ، وَالْمُتَكَبِّرُونَ؟ وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقْطُهُمْ». وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْعِزَّةُ إِزَارِي. وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي. فَمَنْ نَازَعَنِي عَذَّبْتُهُ».
وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُكْتَبَ فِي دِيوَانِ الْجَبَّارِينَ. فَيُصِيبُهُ مَا أَصَابَهُمْ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ عَلَى الصِّبْيَانِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ.
وَكَانَتِ الْأَمَةُ تَأْخُذُ بِيَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ.
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَكَلَ لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ.
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ فِي بَيْتِهِ فِي خِدْمَةِ أَهْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ قَطُّ.
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ، وَيَحْلِبُ الشَّاةَ لِأَهْلِهِ، وَيَعْلِفُ الْبَعِيرَ وَيَأْكُلُ مَعَ الْخَادِمِ. وَيُجَالِسُ الْمَسَاكِينَ، وَيَمْشِي مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْيَتِيمِ فِي حَاجَتِهِمَا، وَيَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلَامِ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ مَنْ دَعَاهُ. وَلَوْ إِلَى أَيْسَرِ شَيْءٍ.
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَيِّنَ الْمُؤْنَةِ، لَيِّنَ الْخُلُقِ. كَرِيمَ الطَّبْعِ. جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ. طَلْقَ الْوَجْهِ بَسَّامًا، مُتَوَاضِعًا مِنْ غَيْرِ ذِلَّةٍ، جَوَادًا مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ، رَقِيقَ الْقَلْبِ رَحِيمًا بِكُلِّ مُسْلِمٍ خَافِضَ الْجَنَاحِ لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيِّنَ الْجَانِبِ لَهُمْ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ- أَوْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ- تَحْرُمُ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ: لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ- أَوْ كُرَاعٍ- لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ- أَوْ كُرَاعٌ- لَقَبِلْتُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُ الْمَرِيضَ. وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ. وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ.
وَكَانَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ مِنْ لِيفٍ.